الفصل الثاني من رواية “عيون المنفى” لعبد الحميد البجوق

الكـابــوس سمع سعيد طرقا خفيفا، فتوجه نحو الباب سائلا بصوت خافت عن الطارق، وبعد أن عرف أنه أخوه عبد الهادي فتح الباب وعلامات الفرحة بادية على وجهه، وأخد يعانقه بقوة ويبادره متلهفا بالسؤال تلو الآخر: ” هل من جديد؟ ما الأخبار؟ هل اتصلت بالصديق عبد السلام؟ هل لازال عبد السلام مستعدا لمساعدتنا؟ هل عادت الشرطة للسؤال عني؟ كيف حال المعتقلين من الرفاق؟” وبهدوء أجابه عبد الهادي وهو يبتسم كعادته : ” على مهلك ياحبيبي واحدة، واحدة” ثم استرسل عبد الهادي بنفس هدوئه المعهود: ” أمي لاتعرف شيئا عن وجهتك ولا تبرح الصلاة والدعاء، لكنها هادئة وصابرة ومؤمنة بالقدر، صاحبنا عبد السلام البحار ملتزم بوعده وينتظر منا الاشارة، أما المعتقلون، فلا أحد يعرف شيئا عنهم سوى أنهم ما زالوا رهن التحقيق، ويحكي البعض أنهم تعرضوا لتعذيب شديد، والشرطة تحوم باستمرار حول بيتنا في تطوان بعد أن اقتحمته في الأيام الأولى بحثا عنك، ولحسن الحظ لم تكن والدتنا، ولا أختنا الحامل حورية، في البيت أثناء الاقتحام”. من جديد، طرق قوي على الباب …، وبعد لحظات من الصمت سمعا ضجيجا قويا وصوتا جهوريا يطلب من سعيد الاستسلام، حاول عبد الهادي تهدئة أخيه، لكن سعيدا لم يستطع تمالك أعصابه، وفي حركة بهلوانية، فتح النافذة وقفز إلى الخارج ، لم تكن المسافة كبيرة بين الطابق الأول والطابق السفلي، وانطلق سعيد يجري مسرعا نحو المجهول، وكلما سارع في الجري سمع خطوات تلاحقه وتطلب منه التوقف والاستسلام للأمن، وكلما أدار وجهه إلى الوراء رأى عملاقا بشارب أسود يطالبه بالتوقف ويردد “الشرطة، الشرطة تأمرك بالوقوف” ورغم سعي سعيد الخثيث إلى الإسراع والافلات، استمر وجه الشرطي يلاحقه وأحيانا يتجاوزه ويطالبه بالتوقف والامتثال لأوامره، وفجأة وجد سعيد نفسه أمام جرف جبل يطل على البحر، كان كل شيء غريبا وغير منطقي، لكن سعيدا أسرع بالقفز إلى البحر، دون تفكير في العواقب، نحو الأمواج التي كانت عالية ترتطم بالجبل. من جديد، طرق قوي على الباب وصوت أبويلا Abuela Maria(الجدة) ماريا، صاحبة البنسيون، تنادي سعيدا: ” خايمي، خايمي Jaime “،وهو الاسم الذي بدأ سعيد يتعود على سماعه من طرف أصدقائه ومعارفه من الإسبان، ثم عاد صوت ماريا ينادي: “سيد خايمي، خايمي، ماهذا الضجيج” بين النوم واليقظة، أجاب سعيد ماريا وهو يحاول التأكد من مكانه ومن حقيقة ما يجري، هل هو في البحر، هل هو في المغرب أم هو في المعتقل؟ ، وبعد لحظات من التردد والرعب، استيقظ ليجد نفسه غارقا في بحر من العرق وملابسه مبللة وشعر بألم في وجهه، فتلمس سعيد جسده وأمعن النظر في الغرفة والأثاث وبدأ يتأكد أنه في البنسيون بمدريد، وبدأ يتذكر أن النوم داهمه لما كان مستلقيا على الفراش يُفكر في الذكريات القريبة والبعيدة وفي إيصابيل الجميلة. بعد لحظات فتح سعيد باب الغرفة ليجد ماريا تسأله وهي قلقة: ” ما بك يا خايمي؟ ما هذا الصراخ؟ “ تفحصت العجوز ماريا سعيدا بنظرات يعلوها خليط من الرعب والاستغراب، ثم سألته: ” ما هذا النزيف على وجهك؟ سيد خايمي مابك؟ من اعتدى عليك؟” انتبه سعيد حينها لأسئلة العجوز ماريا وبدأ يشعر ببعض الألم في وجهه، ثم تحسس أنفه بإصبعه وتوجه مسرعا إلى الحمام . في المرآة، رأى سعيد جرحا على أنفه ودمه ينزف والعجوز ماريا لا تتوقف عن السؤال وتريد التأكد من أنه لوحده في الغرفة. بين الرعب والخيال والحقيقة، فهم سعيد أنه كان في حلم وأنه الكابوس اللعين الذي يرافقه منذ هروبه من المغرب. تنهد سعيد بفرح ممزوج بالرعب، وفهم أن الكابوس اللعين قد عاد من جديد، وأن هروبه، في الحلم، من الشرطي وقفزه إلى البحر من أعلى الجرف لم يكن إلّا اصطداما بالحائط الذي بجانب السرير، كما أن صراخه، وهو تحت تأثير الكابوس، قد وصل حتى ردهة البنسيون حيث تجلس ماريا التي هرعت مرعوبة إلى غرفته للإطمئنان عليه. بحنان وعطف جففت ماريا وجه سعيد بمنديل، ووضعت بعض الدواء الأحمر على جرحه وهي تُطمئنه وتقول : ” لاعليك سيد خايمي، إنه كابوس فقط، أنت في أمان” حاول سعيد إبعاد يدي ماريا المرتجفتين والموشومتين بتجاعيد الزمن، فربتت على كتفه وهي تردد: ” لا تخف سيد خايمي، لقد قضيت نصف حياتي ممرضة وشاركت في علاج جرحى الحرب الأهلية اللعينة، وجرحك سطحي وخفيف، لا تهتم” . بدأ سعيد يهدأ بعض الشيء بعد أن تأكد من أنه، حقيقة، بعيد عن الخطر بقدر بعده عن الوطن، وهو ما يشعره ببعض الحزن. استمر يفكر في هذا الكابوس اللعين، وتاه بعض اللحظات يتخيل صور أمه خديجة، وخالته فطومة، وجدته الحاجة عاقلة وهن يروين قصص الحرب الأهلية، وملاحقة فرانكو للروخوص Rojos (الحمر أو الشيوعيون)،وطائرة “الكلوبو” التي كانت تقصف البوادي المجاورة للشاون وتطوان، والخليفة مولاي المهدي وحفلة زواجه. واستمرت مخيلة سعيد تجوب الذاكرة وتحلق فوق ساحة الفدان بتطوان بجمالها السحري الممزوج ببصمات المبدع والرسام برتوتشي. انتبه إلى أن ماريا لازالت بجانبه تواسيه فشكرها، واعتذر للعجوز وهو يكرر امتنانه لعطفها ومساعدتها، وطمأنها حتى انصرفت. هيأ سعيد نفسه وحلق دقنه بعناية وارتدى أجمل ملابسه وخرج مُسرعا يبحث عن صيدلية لشراء أدوية لتضميد جرح أنفه، ولم يتوقف عن التفكير في ما عساه يبرّر به لإيصابيل وفرناندو سبب الجرح على أنفه، لايدري هل ستصدقIsabel إيصابيل أنه اصطدم بالحائط أثناء نومه وأن السبب كابوس لعين، وما عسى الفتاة تظن به؟ تاه سعيد في شوارع مدريد القديمة محلقا بتفكيره دون أن تفارقه صورة الشرطي البدين بشاربه الكثيف، وصورة أخيه عبد الهادي وهو يزوره في كابوسه اللعين بهدوئه الذي لا يفارقه، وصورة أمه وهي خاشعة في سجودها وعلى رأسها منديل أبيض ناصع، وفجأة سمع سعيد صوتا يناديه بعربية ذات لكنة شرقية: “سعيد، سعيد، يا أبا عمار” استدار سعيد ليجد خالدا، وهو شاب عراقي صابئي لاجئ كان يشتغل في الكويت قبل أن يستدعيه الجيش العراقي للخدمة العسكرية، وخوفا من إرساله إلى جبهة الحرب مع إيران هرب إلى الأردن ومنها إلى إسبانيا. كان خالد غالبا ما ينادي سعيدا بأبي عمار. سبق لسعيد أن تعرف على خالد في مركز الشرطة بمدريد أثناء تقديم العراقي لطلب لجوئه، وطلب خالد من سعيد، حينها، مساعدته في ترجمة أقواله للشرطي المُشرف على استجوابه، ورغم إسبانية سعيد الضعيفة قام بالمهمة بنجاح، ومنذ ذلك الحين، والعراقي الصابئي خالد يسأل عن سعيد باستمرار ويلح عليه في تأسيس جمعية للّاجئين. اقترب خالد بمرحه المعهود وسأل سعيدا بلكنة عراقية: ” شلونك (كيف حالك) أبو عمار، شلونك حبيبي؟ ما الجديد؟” قبل أن يعانق خالد سعيدا، انتبه للجرح على أنفه وصرخ : ” سعيد عزيزي، مالك؟ شو بيك؟ من اعتدى عليك عزيزي؟” وقبل أن يُجيب سعيد على أسئلة خالد، واصل هذا الأخير قائلا: ” مع مين تعاركت يا عزيزي ، مين الصعلوك الذي تجرأ على أبو عمار هههههه؟” ابتسم سعيد وقال لخالد: “عزيزي خالد أكيد أنك لن تُصدق الحكاية فلا داعي لسردها، “ رد خالد بسرعة ولهفة : “لا، عزيزي، لا، لا، لا… حتما سأصدقك يا رجل، ماذا حصل؟” ابتسم سعيد ونظر لصديقه العراقي المندهش، ثم واصل: ” كابوس لعين يلاحقني في الحلم أحيانا، وهذه المرة، أثناء القيلولة، عاد الكابوس، وفي لحظات من الهروب والجري للتخلص من الشرطي الذي يلاحقني في الكابوس قفزت إلى البحر، وكان أن اصطدمت بقوة مع حائط الغرفة المحاذي للسرير،هذا كل ما في الأمر عزيزي ولك أن تضحك ما تُريد” ضحك خالد ثم علق بصوت عال وبنبرة جادّة تضامنية: ” لا تهتم عزيزي، إن هي إلّا كوابيس نعيشها جميعا، وأصدّقك لأني أعيش مثلها كل يوم، وليس فقط أثناء النوم، بل حتى في اليقظة أحيانا، هذا حالنا نحن اللاجئين، نهرب بأجسادنا، لكننا نستمر ضحايا رعب لا ينتهي”.
تنويه : الصور والفيديوهات في هذا الموضوع على هذا الموقع مستمده أحيانا من مجموعة متنوعة من المصادر الإعلامية الأخرى. حقوق الطبع محفوظة بالكامل من قبل المصدر. إذا كان هناك مشكلة في هذا الصدد، يمكنك الاتصال بنا من هنا.

0 التعليقات لموضوع "الفصل الثاني من رواية “عيون المنفى” لعبد الحميد البجوق"


الابتسامات الابتسامات