‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب-الرأي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب-الرأي. إظهار كافة الرسائل

إسبانيا وقانون المصالحة مع الريف


جمال الكتابي/امستردام
قدم حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني، في شخص فريقه البرلماني، يوم 25 نوفمبر 2016 مقترح قانون ‘المصالحة وجبر الضرر’ إلى البرلمان الإسباني، هذا المقترح يشمل المصالحة الداخلية و كما يحتوي في جزء منه المصالحة مع الريف. المقصود هنا بالمصالحة الداخلية هو تسليط الضوء على الجرائم التي ارتكبت خلال مرحلة الحرب الاهلية أو مرحلة الديكتاتورية في إسبانيا، ما يهمنا هنا أكثر هو الجزء من المقترح المتعلق بالمصالحة وجبر الضرر مع الريف (شمال المغرب)، لكن، حتى نضع الأمور في سياقها التارخي لا بد من الإشارة ولو في لمحة عابرة إلى الأسباب التي جعلت حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني ان يقدم على هذه الخطوة في هذه المرحلة، مع الإشارة على أن هذا المقترح نشر في الجريدة الرسمية الإسبانية في 2 دجنبر 2016 أي قبل بضعة أيام.
في أسباب النزول:
في سنة 2006 تلقت المحكمة الوطنية في مدريد عدة دعاوي قضائية رفعها أهالي ضحايا وجمعيات حقوق الإنسان التي طالبت بالتحقيق في مصير المفقودين ومجهولي المصير في زمن الحرب الاهلية ومرحلة دكتاتورية جنرال فرانسيسكو فرانكو، في نفس السنة استجاب القاضي بالمحكمة الوطنية بمدريد السيد ‘بالتسارغارثون’ لطلب عائلات الضحايا ومحاميهم بتوجيه التهمة رسميا الى نظام فرانكو حول مسؤليته في التصفيات والعنف الذي شهدته تلك المرحلة. في نفس السنة أي في سنة 2006 حاول حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني تقديم سؤال في البرلمان حول ضرورة المصالحة مع الريف من خلال تقديم الاعتذار لأهالي المنطقة حول استعمال اسبانيا لسلاح الدمار الشامل(السلاح الكيماوي) ضد مقاومة محمد عبد الكريم الخطابي في الريف، لكن معارضة الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي حال دون طرح هذا السؤال في اليرلمان من طرف حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني. للاشارة فقط فهذا الاخير كان ينسق آنذاك مع مجموعة عمل في المغرب التي تشتغل على ملف استعمال السلاح الكيماوي في الريف. هذه التطورات كلها دفعت حكومة السيد “سابتيرو’ سنة 2007 للمصادقة على قانون “الذاكرة الجماعية” The Historical Memory Law، هذا القانون عارضه آنذاك الحزب الشعبي اليميني وحتى حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني. كان تبرير هذا الاخير لمعاضته لهذا القانون هو انه غير مكتمل مالم يتضمن قانون المصالحة مع الريف. أما معارضة الحزب الشعبي لقانون ‘ الذاكرة الجماعية’ فكان منسجما مع إرثه الفرانكوي. وبدون شك إن ما عجل بإقدام حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني على هذه الخطوة تجاه الريف هو وجود حليف مهم في البرلمان الإسباني المتمثل في حزب Podemos، بالإضافة إلى وجود حراك شعبي في الشمال رفع وبكل قوة مطالب التنمية واعادة فتح ملفات الماضي الاستعماري من بينها ملف استعمال السلاح الكيماوي من طرف إسبانيا وما ترتب عليه من كوارث انسانية وطبيعية.
مقترح حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني للمصالحة وجبر الضرر في الريف:
هذا المقترح صدر بالإسبانية لكن قمنا بترجمته الى العربية (بتعاون مع الباحث حماد بدوي) حتى يطلع عليه الكثير من الناس وبالخصوص أن مطالب الحراك في الشمال تتشابه في بعض منها مع مقترح القانون هذا. نص القانون الذي اقترحه حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني (مترجم): ” هذه هي الفقرة التي تناولت مسألة السلاح الكيماوي في مقترح القانون الذي قدمه فريق حزب اليسار الجمهوري الكاطالوني بالبرلمان الإسباني، و المنشور بالجريدة الرسمية الخاصة بمجلس النواب ليوم 02 دجنبر 2016.
مقترح قانون في شأن الإعتراف بكل ضحايا الديكتاتورية و إسترجاع الذاكرة التاريخية.
يضاف مقتضى إضافي تاسع يصاغ على الشكل التالي:
” المقتضى الإضافي التاسع. الإعتراف بمسؤوليات الدولة الإسبانية و تعويض الأضرار المترتبة عن إستعمال السلاح الكيماوي في الريف.”
  1. تعترف الحكومة بمسؤولية الدولة الإسبانية عن الأعمال العسكرية التي قام بها الجيش الإسباني ضد السكان المدنيين في الريف بأمر من أعلى سلطة فيه و المتمثلة في الملك ألفونصو الثالث عشر في فترة ما بين 1922 – 1927.
  2. و من أجل ذلك، تنظم و تعقد فعاليات للمصالحة و الإيخاء و التضامن مع الضحايا، و مع ذريتهم و مع كل المواطنين الريفيين، كتعبير عن طلب الإعتذار من طرف الدولة الإسبانية.
  3. يُسهل العمل البحثي أمام المؤرخين و كل المهتمين بتعميق المعرفة من حول الأحداث التاريخية من خلال تكييف الأرشيف العسكري لتطبق عليه البروتوكولات التي تنظم اليوم الأرشيفية الحالية.
  4. تتم مراجعة الشروح و المراجع و الفصول المتعلقة بالحملات العسكرية التي قام بها الجيش الإسباني، و الموجودة في المتاحف و المعالم و الثكنات العسكرية و النصوص المدرسية و الكتيبات العسكرية…إلخ، و التي تخفي إستعمال السلاح الكيماوي و/أو تحرف الحقائق التاريخية.
  5. يمنح الدعم للجمعيات الثقافية و العلمية الإسبانية و المغربية التي تشتغل في مجال البحث حول آثار و نتائج إستخدام السلاح الكيماوي في الريف.
  6. ستتحملُ تقديم التعويضات المادية ذات الطابع الفردي التي يمكن أن تتم المطالبة بها بسبب الأضرار الناجمة.
  7. ستساهم، في إطار التعاون الإسباني المغربي، في تعويض الأضرار الجماعية و تعويض الدين التاريخي، من خلال تفعيل و الزيادة في خطط التعاون الإقتصادي و الإجتماعي الموجهة لكل أقاليم الريف، و بشكل خاص لإقليمي الناظور و الحسيمة.
  8. يتم تجهيز مستشفيات الريف، و بالأخص مستشفيات إقليمي الناظور و الحسيمة، بوحدات طبية متخصصة في العلاج السرطاني، للمساهمة في تخفيض نسبة الأمراض السرطانية المرتفعة”.
خلاصة القول:
إن حزب اليسار الجمهوري الكاطالون كان ذكيا على الأحزاب المغربية في استيعاب دقة المرحلة التي تمر منها إسبانيا و المنطقة بشكل عام لطرح هكذا مقترح، بل يعتبر هذا المقترح أكبر هدية للحراك الشعبي بالشمال. السؤال المطروح هو أين هي الدولة حتى تواكب هذه التطورات المهمة والتاريخية في شخص هذا المقترح التاريخي الذي اقترحه وقدمه الحزب اليساري الجمهوري الكاطالوني؟
لقد حان الوقت كما يبدو لبناء مؤسسات جهوية مستقلة لمتابعة هذه الملفات مع الجهات الدولية، على شباب الحراك ونخب المنطقة التفكير بجدية في هذه المقترحات.
امستردام 6 دجنبر 2016


سَلاَمٌ عَلَيْكَ .. يا غُرَّةَ الأَوْفِيَاء …


بمناسبة إحياء الذكرى الثانية والخمسين لإنتقال الزّعيم البطل العظيم المشمول برحمة الله محمّد عبد الكريم الخطابي إلى الرّفيق الأعلى فى 6 فبراير 1963 تغمّده الله تعالى بواسع رحمته ، وأنزل عليه شآبيب مغفرته ورضوانه، وأسكنه فسيح فراديسه وجنانه، ،وإستبشاراً، و إستذكاراً ،وإستغواراً، وإستحضاراً لما قام به وأنجزه هذا الرّجل الشّهمُ ،وحيد دهره، وفريد زمانه إلى جانب المجاهدين الصّناديد، والشّهداء الأبطال الآخرين رحمهم الله تعالى جميعاً بواسع رحمته، الذين أعطوا النّفسَ والنّفيسَ، من أجل صَوْن كرامتهم، وشهامتهم، وشرفهم، ونخوتهم، خلال الملاحم البطولية الرّائعة الفريدة التي خاضها أجدادُنا الميامين ببسالة، وشهامة، وشجاعة منقطعة النّظير ضدّ المستعمِر الغاشم ،والتي سَمَتْ بالرّيف، وبالمغاربة الأحرار قاطبةً إلى أعلى مراتب العزّة ، وأسمى منازل المجد، وبوّأتهم أرقى مقامات السّؤدد والخلود، فى مختلف بقاع وأصقاع المعمور. وعلى الرّغم من شحط السّنوات والمزار، وبعد الأزمان والديّار، فاضت القريحة ، وجاد العقلُ،والقلبُ، والرّوحُ، والوجدانُ، والِلسانُ ،والجَنانُ، بهذه الإفصاحات التلقائية، والإجهاشات الإستكناهية،أو بهذا الدّفق أو التداعي التلقائي العفوي، فأقول :
عجباً أنْ يُرَوَّعَ الرُّومِيُّ ويَنْثنيِ تَحْتَ أَقْدَامِكم وإِقْدَامكم
تَعَالىَ بناءُ المجد بالكوكب الذرّ/ 
ونورُ شموس اللّه أشعّ مع الفَجْر/
تَعَالىَ حِمَى الإيمانِ والعدلِ والهُدَى/
وقوّةُ بأس دونها قوّة الذرّ/
أبطالٌ ب”أنوال” جاشت نفُوسُهم/
فأصبحوا نورَ التّرب والمسكَ للقبر/
فهامت عقولٌ كانت بالأمس رشدَها/
وزاغتْ عيونٌ دمعُها لجّةُ البحر/
أشاوسُ طابت لكم الشّهادةُ والعُلَى/
وإسمُكم على كلِّ لسانٍ به يَسْرى/
لقد هبّ الرّيفيّون عن بكرة أبيهمُ/
وحلّت على الأعداء قاصِمَةُ الظّهر/
وَكَالطّير مقصوص الجناحين فإرْتَمَى/
على الصّخرِ منهوكاً تحطّم بالكسر/
كأنّ لدَى إستشهادكُمْ يا نخوةَ أَرْضِنَا/
جُسُومٌ بلا رأسٍ أيادٍ على البَّتر/
أبناءُ الأماجدِ والأفاضلِ والحِجَى/
أحفادُ المَكَارِم والميامين والفخر/
كلّ المداشر والعشائر تحتفى/
ببسالتكم دَوْماً من نَصْرٍ إلى نصر/
فخرَ الأمازيغ والصّناديد والنُّهَى/
مجدَ المعالي والنّدَى وغُرّة الدّهر/
أساسُ جهادكمْ فرقانٌ وشهادةٌ/
وذِكْرُكُمُ للّه فى السرّ وفى الجَّهْر/
شجاعتكمْ فى القلوب لنا تميمةٌ/
وحبّكم دَفَقٌ من حيث أدْرِى وَلاَ أدْرِى/
هذا “أَجْديرُ” قد ألقى إليكم بسَمْعِه/
وذِكْركم فى كلّ رياض به يَجري/
عجباً أنْ يُرَوَّعَ الرُّومِيّ**ويَنْثني/
تحت أَقْدَامِكم وإِقْدَامكم سَاعَةَ الظّفر/
طلائعُ الرّيف ترنو إليكمْ بقلبها/
وذكراكمُ فى كلِّ جَناَن عاطرةِ الذّكر/
حُشْدٌ على الحقِّ صُنَّاعُ المَجْد والفِدَا/
مع كلِّ طلعةِ شمسٍ أو قمَرٍ أو بَدْرِ/
أنوالُ يا مَعْقِلَ البطولات بأسرها/
أدواحُكِ الفيحاءُ دائمةُ النّضر/
ففى مثل هذا اليوم ، وفى مثل هذا التاريخ المشهود ،طُوِيتْ صفحةٌ رائعة من صفحات تاريخ الحرب الرّيفيّة التحرّرية الماجدة،ولم تُطْو أصداؤها ،وأبعادها،وأمجادها، إذ فيه إنتقل إلى الباري جلّت قدرته الزّعيم البطل المشمول برحمة الله محمّد عبد الكريم الخطابي تغمّده الله تعالى بواسع رحمته ، ويذكّرنا هذا الحدث الأليم تلقائيّاً بالمعارك الباسلة التي خاضها المجاهدون الصّناديد ضدّ المستعمِر الإسباني البغيض، وفى طليعتها ذُرَّة البطولات ،وذِرْوة الإنتصارات ،وأمّ المعارك وهي معركة ” أنوال” العظيمة وبهذه المناسبة كذلك نتضرّع إلى المولى جلّ وَعَلاَ ليشملَ كافةَ مجاهدينا الأشاوسَ الأبرار،وشهداءَنا الميامينَ الأخيار برحمته الواسعة، و أن يُسكنهم اللّهُ تعالى جميعاً فسيحَ فراديسه وجنانه، وأن يُمطر عليهم شآبيبَ رحمته ورضوانه. ومن بينهم أذكر فى هذا المقام ( جدّنا الأبرّ تغمّده اللهُ تعالى بواسع رحمته ) المجاهد “مُوحْ نَ سِّي أحمد الورياغلي الأجديري خطّابي” شهيد هذه المعركة الخالدة، إلى جانب العديد من الشّهداء الآخرين الأبطال الصّناديد فى يوم الأربعاء 21 من شهر يوليو 1921.
                                                    
                                                              

                              "كتب : محمّد محمّد خطّابي"

سؤال الانفصال والوحدة بجهة الريف


لكي نتجاوز أفق الغموض والمسافات في القراءات ، ولكي نصل إلى التعرف على حقائق غائبة، وأراء ظلت غير واضحة، ونعطي الحق مساحة التعبير علنا و نوفق في جمع نقاط الاختلاف وتقارب الرؤى بين كتلتين مختلفتين على قضايا إستراتيجية "الوحدة والانفصال" . و من غسق الأحداث التي تعيشها البلاد لا نرغب التشدق بمفاهيم من باب الإثارة بعيدا عن حمولتها السياسية و المرجعية  من قبيل الانفصال ، الاستقلال ، الحكم الذاتي  و الوحدة الترابية و الإجماع الوطنية و الديمقراطية و الذاكرة   ،،، أو الوتر عليها كأُهزوجة شعبية تراثية أو حماسة نضالية أو آيات نصية مذهبية، بل نريد أن نكون واقعيين عند النظر إلى حال الأمور التي بلغتها بلادنا. و عن طبيعة القضايا المرتبطة بجوهر السياسة و الاقتصاد ، فتلك الدعوات و الحركات التي إقترن إسمها بخيار تقرير المصير السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي لم تنطلق من مسوغات فارغة بل هي نتيجة لعقود من الاستبداد و القهر و الصراع الطويل على السلطة ، و من خلال نتائج هيمنة الكتلة الحاكمة التي كرست نظام يقمع الحريات و يشجع مظاهر الاستغلال، ظلت كل الخيارات إلى بناء الذوات مفتوحة على أشكالها سواء بالصراع  على الحكم  أو تقاسم  السلطة أو المشاركة فيها... ومن خلال السيناريوهات التي نشاهدها على مسرحنا السياسي اليوم الذي يسير على خطى العهد السابق يُكرّس مفهوم الهيمنة المطلقة بتمظهرات جديدة على السيادة بدون تنازلات، و يؤسس إلى عنف المنهج الذي يسود طبيعة الحياة السياسية و الاجتماعية و الثقافية عندنا و الذي يقود الحكم الى كثير من المخاضات و الاحباطات . و أمام إضطراب تعبيرات الإرادة الحقيقية في التغيير و بناء مؤسسات التمثيلية الفعلية بالبلاد ظل خيار الانفصال ثقافة و وجهة لحسم النزاعات لدى أطروحات عديدة،  و أعتقد بان الشعب قد أدرك تناقضه الحاد مع مضمون قضيته  ولكن – للأسف – ما زال كثير ممن يحسبون على النخبة السياسية والثقافية المغربية يرددون هذا المفهوم في الخطاب السياسي والإعلامي دون إدراك لإبعاده الجيو/سياسية والاجتماعية، إن لهذا المخاض ثمة حق تشكيل أقاليم بهويتها الخصوصية لها مميزات تاريخية و ثقافية الى حد تحولت نمط خاص  بذاته نموذجها جهة الريف الكبير. 

1- الريف  بين الاختلاف على إطار الوحدة و الانفصال: 

   نظرا إلى ما تطرحه قضايا الحقوق التاريخية و السياسية للمناطق ذات الطابع الخصوصي خلال الفترة الأخيرة بالبلاد وخاصة بعد نتائج الحراك الشعبي  لسنة 2011 من نقاشات كبيرة وحادة والتي لم تتوانى إلى اليوم عن الهتاف بدعوات القطع مع السلطة الاستبدادية المركزية للدولة، فمسألة الوحدة و الانفصال على قضية الريف ظلت هماً نخبوياً سياسيا و رغم الهاجس الأمني الطاغي على الموضوع أدت الى تحديد مجال تداول قضية النزاع  السياسي و المذهبي و إلى تكريس صورة أخرى ، إذ أوحت أن هذه القضية رغم قوميتها ليس بالضرورة أن تقترن برؤية تنظيمية أو مذهبية  محددة بل بالمعتقدات و القناعات المتأصلة بالريف كتجربة نموذجية في النضال التحرري ،  فوعي الاستقلال بالريف غير مرتبطة بنماذج أصولية أو إثنية كي لا يفهم أن البيئة المحلية متعصبة بالفطرة غير حاضنة لوعي التنظيم بالعكس صراعها حول  بناء الذات لها منطلقات السياسية و الثقافية التاريخية، و الحسابات التي يراهن عليها البعض داخل الصراع المخابراتي على تراب الريف تقدير خاطئ ومبني على مغالطات...  ولاشك أن من أكبر الوقائع التي قصمت ظهور دعاة مركزية سيادة الدولة هي بروز وعي مستقل عن ثقافة المركز بمرجعية محلية ضد اختيارات الطبقة الحاكمة، وكانت أشد وقعاً على أذانهم من الصواعق ألا وهو خروج الى حيز العلن حركات تطالب بالحكم الذاتي و بتقرير المصير و أخرى إختارت النضال الحقوقي كجبهة للدفاع على الريف الكبير ... و كل هذا يؤسس الى فصل آخر من الصراع - الانفصال -  وآخر مسمار يدق في نعش الوحدة،  فتشكلت لدى فئة عريضة من مختلف التوجهات قناعة ثابتة  بضرورة بناء أدوات الاختلاف سواء بالمجتمع أو المؤسسات على الوحدة و الانفصال ، و  أنه ليس من صالحها الدخول في دوامة تعادي ثوابت ثقافية و قواعد دينية أو عرفية  أن مضامين الوحدة الشعبية على قضاياها لن تتأتى إلا بمشروع جديد قادر على توحيد المواطنين من جديد و يؤسس الى شروط لبيئة بديلة تحتضن مختلف الانتماءات، و ممكن اعتبار حق تقرير المصير كحق إنساني ديمقراطي أصيل يؤسس للعمل الوحدوي على قاعدة الاختلاف و التنوع ..
   الريف الآن مجزئ على أكثر من قضية و ملفاته عديدة ، لم يستطع ممثليه و ساكنته الى بلورة أفق مشترك للدفاع على كل ما يجري فيه، فهو الآن في حاجة الى مبادرات هادفة تفكك الرموز الغامضة على الأسئلة المطروحة بين مضامين الوحدة  والانفصال داخل البيئة المحلية، و  تسخير كل الطاقة لنظرية إطارها العام مفاده أنه لا مجال لتقسيم جغرافية الريف بدافع أمني محض ، فذاك يغذي أطروحات لها مصلحة الترويج للخطاب الداعي الى توزيع  بعض الاختصاصات الشكلية في اطار ثقافة التضامن الترابي مع الاحتفاظ بجوهر السلطة – الجهوية الحالية  -  فتسعى الى تحريف مسار قضاياه الحقيقية بنقاش هامشي يتعلق بالتقطيع و ما الى ذاك من أفكار  بهدف ضرب عمقه الاستراتيجي...  و الأفضل هو رد الاعتبار للريف التاريخي و السياسي  و التوجه نحو المطالبة بصلاحيات حقيقية للجهات تمكنها من رسم سياسة محلية في التنمية و المؤسسات،  فالحتمية التاريخية المرتبطة بتحولات المرحلة تتجه الى ضرورة البناء السياسي هو حاجة موضوعية و تاريخية.فالجهوية الجديدة على النموذج الحالي ماهي إلا بتر الريف بالسياسات المجالية و النصوص القانونية والتنظيمية...

2 – وحدة الريف و النموذج الجهوي المنشود :

    مؤخرا الخطاب الرسمي  يُقّر أنه عرفت منطقة الريف تحولات عميقة خاصة على مستوى العلاقة مع إدارة الحكم و التفاعل مع بعضهما بلغ درجة كبيرة ، لكن ذاك كله لم يشفع للنتائج الميدانية و التي تختلف قراءاتها من طرف لآخر و لا يمكن حصرها في طبيعة الأشغال أو البرامج المقدمة، بل في المنهجية التي أُعتمدت في أجرأة  مقاربة جبر الضرر الجماعي و تسوية الملفات التاريخية و السياسية، فكان للحراك الريفي المدني و حتى السياسي وقع هام خلال عملية إعادة البناء و العلاقات ، فرفع الأمر الى مستوى راق من أطروحات المعالجة لملف الانتهاكات و رؤية البدائل مثلا  الاجتهادات العلمية و العملية لـ "لجنة إعلان الريف" و المقترحات السياسية التنظيمية لـ "حركة  الحكم الذاتي في الريف" و الإسهام الحقوقي النضالي الرفيع لـ " منتدى حقوق الانسان بشمال المغرب ،،، فقد  شكلت قاعدة أساسية لإنطلاقة الوعي البديل في المرافعة النضالية الشعبية على ملفاته الحقوقية و السياسية و التاريخية و الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية، فبدأنا نستمع الى خطاب الريف الكبير من داخل المؤسسات ربما لدواعي تكتيكية  من أجل إحتواء مطالب لهيئات سياسية و حقوقية، و ربما أيضا أنه كل ما أُنجز لم يحقق هدفه المطلوب لاسيما مع تصاعد أصوات غاضبة على أداء المؤسسات التي تمثل الدولة في الريف و حتى على طبيعة الملفات التي تتداول كطابوه مثل الإرهاب و المخدرات و الانفصال و التخابر... ، لكن الآن مع إيقاف عجلة الامتيازات و صعود نجم آخر داخل عالم صراع الصقور في الدولة العميقة  بات واضحا أن الريف تحول الى حلبة للمزايدات السياسوية و الحزبية ، و لنا تجربة صارخة خلال تولي pjd  السلطة في أحداث  08 مارس في بلدة بوعياش 2012  حيث الآلة الأمنية حصدت سجلا ضخما من الانتهاكات تحت ذريعة التصدي للاختراقات الخارجية و اجتثاث بؤر التوتر و العصيان،  و أن فكرة الانفصال لازالت قائمة الذات و البيئة المحلية حاضنة لها، و مع إعلان نهاية تجربة الوحدة و المصالحة و بداية الصراع على السلطة و كيفية توزيعها عل المناطق التاريخية بالبلاد تعمقت الأزمات و المسافات ، بين هذا وذاك طفحت على السطح تذبذبات سياسية خطيرة أدت إلى ما أدت إليه من نتائج كان وراء ميلاد مبادرات تهدف الى تقرير المصير السياسي و نموذجها مؤخرا من الدياسبورا  "حركة 18 سبتمبر"  و حول الموضوع يُطرح نقاش عميق و أسئلة منطقية مرتبطة بطبيعة الظرفية في الحاجة لتأسيس كيان سياسي للريف ، ربما هي تحصيل حاصل لسنوات من الصراع الطويل بين الريف و الدولة لكن  ليس  على الحكم  بل على الإقصاء و التهميش و على التصنيف العنصري لسياسي البلاد تجاه المنطقة و إدراجها دائما قسرا أو اضطراريا في خانة الانفصال و العصيان و التمرد... في البداية كانت للعواصف الايديولوجيا القادمة من الشرق و ثقافة المركزية أثر على النخب المحلية و أما الآن المناخ المحلي هو المبدع و المحدد وهو المؤثر ..،  فحينما خرجت شباب الريف في  20 فبراير 2011 الى الشارع ضد الاستبداد  رافعة شعار الكرامة و العدالة و الحرية  في الريف  جسدت طقوس خاصة بها نحو التوجه الى المطالبة بتقرير مصيرهم السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، و تمكين منطقتهم بالتسيير الذاتي الذي لا يمكن أن يكون بدون تنظيم السياسي ، ولا يمكن أن تكون دون مؤسسات جهوية منتخبة قوية تخضع للمراقبة الشعبية عكس التقسيم الحالي الذي تحكمت فيه مقاربات أمنية بالدرجة الأولى أنتجت جهات غير منسجمة، ولا زلنا نعاني إلى اليوم من تبعات التقسيم الفاشل.  إذن النموذج المنشود لجهة الريف الكبير تنطلق من  منظومة مستمرة في الزمان تمخضت عن علاقات اجتماعية ومجالية متراكمة ومنطقية بين عناصر مكانية مستمدة من التاريخ والجغرافيا. ويتحدد كنظام مجالي جغرافي، على أساس المنظومات الاجتماعية التاريخية (القبائل) المشكلة له، وهكذا يحده مجال جهة الريف الكبير من الشرق صوب العرائش ...

3- الريف و الخيارات الثلاث: 

   إن مستقبل  الريف برُمته كما أراه في المدى المنظور مَنوطٌ برؤيتنا بين الخيارات المطروحة ، بين نظرية العمل من داخل المؤسسات و نظرية البديل السياسي و الإداري،  أي بين خيار الالتحام مع الدولة و الصراع مع نظامها الحاكم لتغيير بنيته في الريف ، أو تدويل قضية الريف لضمها الى خندق الشعوب الأصلية والأقليات لاعتبار سياسي و اجتماعي...  قد يذهب البعض للقول إن الخيارات المطروحة أمام الدولة المغربية تكاد تكون أوسع  و يمكن لها أن يقترن بها وضع البلاد إزاء المأزق الذي تمر به العملية السياسية خاصة في ورش المؤسسات السياسية الادارية و الذي كشف عن غياب جرأة المكونات السياسة المغربية على مناقشاتها بعيدا عن تركيبة النصوص، و الخوض في جوهر الجدل السياسي حول موضوع طبيعة نظام الحكم و سؤال توزيع السلطة و القطع مع مفهوم مركزية الدولة و الانتقال الى دولة الجهات مثلا جهة الصحراء و الريف، بل واتجاه بعض السياسيين إلى إقرار بالمأزق والحاجة للبحث في خيارات بديلة منها العودة إلى المقاربات التسلطية تجنبا لدعوات المواطنين في الريف و غيرها من المناطق بالبلاد الى تمكينهم بصلاحيات كبيرة و واسعة ، أو القول بأنه كل ما يجري هو نزعات انفصالية مدفوعة من الخارج  كموقف استباقي للزمن تجنبا لجوهر القضية  السياسية و التاريخية للريف طالما انه أصبح شبه دولة في العمق ،  وهنا علينا وضع تصورات للرد على التساؤل الآتي هل من الضروري الآن وفق نتائج دستور 2011 الذي حسم الإطار العام لبنية الدولة إلى الجدل على جوهر السلطة بين مركزية الدولة من التحول صوب اللامركزية السياسية و الادارية أو الجهوية الموسعة و الفيدرالية، أو من التحول تجاه النزوع نحو الانفصال و الاستقلال السياسي ؟ وكلاهما جاء كنتيجة لممارسات قوى حكومية خاطئة تستفيد من حصر السلطة في يد الادارة المركزية دون تكريس الآليات الديمقراطية في الممارسة السياسية و هي تحت تستر غير عقلاني أو أخلاقي من رجالات المختبئون وراء الوطنية و حتى عشيرة العلماء و فقهاء الدين المنضوون تحت لواء الامارة.
في الأخير :  لا التقسيم الحالي بكل اقتراحاته يمكن أن يمنح المكانة التي يستحقها الريف التاريخي و السياسي في تركيبة الدولة التي لا تتنازل على جوهر السيادة ، و لا هي ضامنة للاستقرار و الوحدة و لا  تسوي ملفات النزاعات بل هي سبب لعودة التوتر ، لقد كانت لمسألة الثقة دور محوري في ترسيخ العلاقات بين المركز و الريف و الآن مستقبل المكاسب التي تحققت في مهب الريح بفعل جهالة بعض النافذين  و لا تلمون ساكنة الريف في شيء فكل ما يصدر منهم مشروع و خيارهم الثالث بات قريب ، ففي التجربة الاسبانية  كانت الملكية البرلمانية مدخل لتسوية النزاعات السياسية و الترابية  و الأكثر أنها تتوسع في الاختصاصات لإحتواء ميولات الانفصال و خلق شروط التنوع  في اطار الوحدة، و مادام القرار النهائي في يد السلطة التنفيذية  فمن الأفضل الكف عن مثل هاته من النقاشات الفارغة  فمشروع عزيمان يمتلك تأشيرة التنفيذ فلا داعي للسرعة، و  مثل هاته من المواقف الرسمية  تغذي البيئة المحلية للعودة بقوة الى فكرة  الذات المستقلة.
                                                                      بقلم : خالد بلقايدي*  ناشط سياسي و حقوقي 

اصدار كتاب جديد حول المقاومة الريفية

أصدرت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مؤخرا، كتابا جديدا تحت عنوان "المقاومة الريفية من خلال الشعر الأمازيغي الريفي-دهار ؤبران -نموذجا" للباحث عبد الصمد مجوقي.
وأوضحت المندوبية، في بلاغ لها، أن هذا الاصدار الجديد، يتناول معركة "دهار ؤبران" كملحمة وطنية كبرى طبعت تاريخ وجغرافية منطقة الريف لسنوات عديدة، من خلال ما أنتجته وأفرزته من حمولة أدبية تاريخية وازنة، تضم نصوص أزجال وأشعار وأغاني شكلت جانبا من التراث الأمازيغي الريفي ذي الصلة بالكفاح الوطني في مواجهة التحدي الاستعماري.
وأضافت أن أهمية هذا الإصدار تكمن في تجميعه للكثير مما سبق نشره من تلك الذخائر الشعرية والنفائس الأدبية أو التي لا تزال في ذاكرة ووجدان من يحمل ويهتم بهذا الصنف من الإنتاج الأدبي والشعبي مع تبوبيها وتصنيفها وتقديم ترجمة لها باللغة العربية.

فاطمة أزهريو … بعد عام من وفاتها

علي العبوتي
 قبل عام من الآن كان معظمنا أكثر شعورا بروحهم بحركات أعضائهم الداخلية، لأننا جميعا كنا نؤمن بأن جسم أيّ واحد منّا قد يكون مريضا بداء، لا علاج له، ما دمنا ننتمي لعائلة واحدة: الريـف. هذا التحسس الذي تمخّضت عنه شتى أنواع الإبداع من صرخة، أغنية، قصيدة، لوحة… وإلى غير ذلك، سرعان ما توقف. كما تلاشت اللوحات الابداعية واندحرت. فمن يا ترى جعلنا نرهف السمع إلى دواخلنا بتلك الطريقة في ذلك الوقت بالضبط؟ وما هو المرض المستعصي الذي بات يهدّدنا ما دمنا ريفيين؟ ولماذا خَمدت كل تلك الإبداعات بعد فترة صغيرة من اشتعالها؟

   صبيحة اليوم الرابع من شهر يناير 2014، استيقظنا على خبر وفاة طفلة لم تتجاوز ربيعها الرابع عشر، في غرفة من غرف المستشفى الجهوي بمدينة الحسيمة. كان اسم البنت هو فاطمة، وكنّا نتابع حالة مرضها، المتجلية في إصابتها بداء سرطان الدم، قبل أيام. حتى إننا تبرعنا لها بالدم آملين في إنقاذها من ”الخنزير” الذي يفتك بجسمها. لقد تفاجأنا وتبادلنا التعازي، وسمعنا بعضنا يقول:
   – أتعرفون؟ إن فاطمة ضحية لإهمال طبي. لقد رأينا صورا للمستشفى الذي كانت ترقد فيه.. لا أجهزة، ولا رحمة في بعض الأطباء والممرضين الذين كُلّفوا بالعناية بها.. تصوّروا أن أنف فاطمة كان ينزف دما، فكانوا هم يحشون في منخاريها مناشف الحمام! تصوروا أن أكلها كان يُجلب في صحون متسخة ويُرمى في الأرض لتأكله القطط أمام أعين المريضة التي لا حول لها ولا قوة!.. وحتى دمنا الذي وهبناه لفاطمة لا نعرف مصيره.. يا إلهي! لقد سقينا العبوات دما كي لا نلقي بفاطمة إلى التهلكة، فهي نفسنا، لكن ”المُشْــتشفى” تحالف مع الموت.. وها نحن فقدنا فاطمة.. وما زلنا نفقدها.. 
وأكد البعض الآخر قائلا:
   – نعم.. بسبب إهمال الأطباء والممرضين، وبسبب نتانة المستشفى أيضا، فقدنا فاطمة التي لم تجد مالا لعلاج مرضها.. فقدنا فاطمة التي حُملت فوق النعش وهي حامل تتوجع. فقدنا فاطمة الذي بقي طريح الأرض يئن دون سرير ولا غطاء. فقدنا فاطمة الذي يعيل أسرة ولم… فقدنا فاطمة وفاطمتين… وفاطمات. لكن ليس هذا هو السبب الوحيد الذي أودى بحياة فاطمة، بل هناك سبب آخر وهو سمّ تجرّعته أرضنا اسمه ”الخردل”. سمّ تسرّب إلينا وراثيا بعد أن دسّه الاستعماريان في شرايين وجينات جدودنا المناضلين…

   تطلعنا في وجوه بعضنا بصمت، وحين جنّ الليل قررنا أن نقـول صوتا ونكتب سطرا، لكن لمن؟.. للوُلاة الذين يلون أمرنا. قررنا أن نسألهم: لماذا ترك آباؤكم السم يندّس في أجدادنا؟ أبهذا تتآمرون جميعا مع المستعمر؟ والآن لماذا اخترعتم سما جديدا اسمه ”الإهمال”، وقمتم بدسه في المستشفيات لينخر أجسامنا؟.. تباعدنا، لكننا بقينا نلوك فكرة الغاز السام الذي هبط من طائرات العدو الإسباني خلال حرب الريف مصيبا الأرض والناس، فاكتشفنا أنّ لا أحد اعترف بما اقترفه من جرم، وهذا ما زادنا لهفة لنقول.. لنصرخ.

   قلنا الكثير، وسالت الأقلام ترثي وتتهم وتحتج، وبحت الحناجر برفع الشعارات والتغني بـ”ليس فاطمة فقط، بل كلنا ضحايا السرطان”، لكن لم يدم تنفيذ القرار إلا هنيهات. توقفنا ولا نعرف لماذا توقفنا.. نريد أن نستمر ولا نعرف ما الذي يوقفنا.. لم نكن نعلم أن شمعتنا الملتهبة ستكون سريعة الانطفاء هكذا، لكننا كنا نؤمن أن في داخل كل واحد منا فاطمة تجري فيه مجرى الدم.

   ولأنني واحد من ”نحن”، وأنتمي لعائلة كبيرة اسمها الريف، ولأن الحالة لم تتغير (لا مستشفى مجهز لمجابهة هذا الموت السرطاني، ولا اهتمام إنساني بالضحايا)، قررت أن أكتب ما قرأتم أعلاه، عسى أن نجعل الحقيقة صحة نتوارثها، نكاية في من دسّوا السم مرضاً لنتوارثه جيلا عن أرض.

العرّاب..بالمناسبة أين اختفى سعيد شعو ومصطفى المنصوري؟

هذا المقال كُتب ونُشر قبل أربع سنوات، أوائل نونبر 2010، يتحدث عن الفيلم الذائع الصيت “العراب” الذي يتناول قصة المافيا الصقيلية في أمريكا، كيف تشكلت “عائلات” هذه المافيا وكيف تسير أمورها، ويحاول أن يربط ذلك ببعض الممارسات السياسية في “أجمل بلد في العالم”، ويشير بالتحديد إلى الامين العام السابق لحزب التجمع الوطني للاحرار، وكذا البرلماني السابق عن حزب العهد “سعيد شعو”..
المقال نشر قبل أربع سنوات، قبل الحراك الشعبي، لكنه مازال يحتفظ براهنيته لأن الواقع الذي يتحدث عنه ما زال قائما، لذلك ارتأينا اعادة نشره تعميما للفائدة ونزولا عند رغبة العديد من الاصدقاء الذين طلبوا مني إعادة نشره…
قراءة ممتعة ومفيدة
توضيح لا بد منه
لم تتح لي فرصة مشاهدة فيلم العرّابthe godfather  إلا مؤخرا، حين مكنني أحد الأصدقاء مشكوراً بنسخة منه. ولشدة انبهاري بالفيلم و بمستوى الحوار الذي يتخلل مشاهده، حاولت جهد المستطاع أن أجمع معلومات وافية تُعِنُني في فهم الفيلم أكثر، من خلال استحضار السياق الاجتماعي والسياسي الذي أنتج فيه، كما أنني حاولت ما أمكن أن أتحرى في صدق المعلومات التي سمعتها من بعض الأصدقاء ممن سبق لهم مشاهدة الفيلم.وسأحاول في هذا المقال إشراك القراء في أهم المعلومات والمعطيات التي توصلت إليها. لكن قبل أن أفرغ من هذه المقدمة التوضيحية، أحب أن أشير إلى أنني بعد معاودتي مشاهدة الفيلم بتأنٍ، بدا لي أن عالم المافيا وبتفاصيله الغريبة، قد يساعد كثيراً على فهم بعض خيوط شراك السياسة المغربية، لاسيما إذا استحضرنا أحد المفاهيم العزيزة على قلوب رفاقنا في النهج الديمقراطي، أعني مفهوم المافـيا المخـزنية.
في أصول المافيا
يُرجع البعض تاريخ المافيا إلى القرن الثالث عشر مع غزو الفرنسيين لأراضي صقلية الإيطالية سنة 1282 بعد فساد نظام الحكم في فرنسا، لكن المافيا بشكلها الحديث لم تُعرف إلا في نهاية القرن التاسع عشر، أي بالتوازي مع توطيد النظام الرأسمالي وانتقاله إلى مرحلة الامبريالية، ففي هذه المرحلة اكتسبت هذه المنظمة المزيد من الشهرة لتظهر بوصفها أقوى منظمة إجرامية عالمية من خلال انتقال جزء كبير منها إلى الولايات المتحدة مع مطلع القرن العشرين.غداة صعود الفاشية في إيطاليا واصطدام مصالحها مع مصالح المافيا.
هناك العديد من الروايات التي تفسر سبب تسمية هذه المنظمة بـ (المافيا)، من بينها حكاية إيطالية قديمة تقول، أن جزيرة صقلية شهدت مرحلة نشوء وتبلور منظمة سرية لمكافحة الغزاة كان شعارها:
” Morte Alla Francia Italia Anela ” (موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا) فجاءت كلمة مافيا (MAFIA) من الحروف الأولى لهذا الاسم وأصبحت رمزاً للمنظمة.
من جانب آخر هناك من يذكر بأن نشأة المافيا كانت نتاجاً طبيعياً للتمرد والعصيان الذي ظهر بصقلية عقب قيام أحد الغزاة الفرنسيين بخطف واغتصاب فتاة إيطالية في ليلة زفافها سنة 1282 مما أشعل نار الانتقام في صدور الإيطاليين فسفكوا دم الفرنسيين انتقاماً لشرفهم وأعراضهم .. وكان شعارهم في ذلك اليوم هو الصرخة الهستيرية التي أطلقتها أم الفتاة وهي تجري في الشوارع صارخة: ” Ma fia, Ma fia ” (ابنتي، ابنتي).
المافيا جهاز معقد للغاية يبدأ تكوينه بما يسمى بـ(العائلة)، وهي عبارة عن مجموعة من الأشخاص يجمعهم رابط معين كرابطة الدم، الصداقة، النسب .. أو حتى المدينة أحياناً، ويتزعمها عادةً أقوى الأفراد شخصية وأجدرهم بالقيادة، وتتم مبايعته من بقية الأفراد وتكون لكل عائلة سمة معينة أو نشاط إجرامي يميزها عن بقية العائلات.
تأتي بعد ذلك المرحلة الثانية وهي عبارة عن الوحدة الأكبر أو العائلة الكبرى، بانضمام عدد من العائلات المتشابهة في النشاط إلى بعضها ويتزعمها زعيم منتخب من العائلات الصغيرة وفي الأخير يخضع الجهاز بأكمله إلى الرائد الكبير للمافيا والذي عادةً ما يكون في صقلية، وأحياناً قد يشارك في إدارة دفتها أكثر من قائد ممن يشهد لهم بالكفاءة والتاريخ العريق.ولعل مما يميز المافيا إلى جانب تركيبتها المعقدة، هو الطاعة الشديدة والولاء الكامل للرؤساء لدى أفراد المنظمة .
المافيا في السينما العالمية
حول المافيا العائلة أُنتج العديد من الأعمال لعل أبرزها الفيلم الكلاسيكي الإيطالي In the Name of the Law في عام 1949 وInside the Mafia في 1959 .. بعدها بسنوات كانت القفزة الهائلة عبر السلسلة الخالدة العرّاب Godfather والمستوحاة من كتاب للروائي الكبير ماريو بوزو، والتي لاقت احتفاءً وتقديراً بالغين من قبل النقاد والجماهير على حد سواء.
و في حقبة التسعينيات كانت السينما العالمية على موعدٍ مع روائع أفلام المافيا والجريمة ففي عام 93 كان “براين دي بالما” قد ضم النجمين الكبيرين”آل باتشينو” و”شون بين” في فيلمه الدرامي Carlito’s Way .. وفي عام 97 عاد “آل باتشينو” بفيلم آخر يحمل اسم Donnie Brasco جمعه بالنجمين “جوني ديب” و”مايكل مادسن” ،وهو عمل جميل يعرض أسلوب حياة أفراد المافيا ومدى خطورة العلاقة التي قد تنشأ وتتطور بين البوليس ورجل المافيا.
وفي مطلع التسعينات قدم المخرج الكبير “مارتن سكورسيزي” رائعته Goodfellas وهو من بطولة النجم “راي ليوتا” مع النجمين الكبيرين (دي نيرو و جو بيشي) .. ولينضم هذا الثنائي مرة أخرى مع مارتن سكورسيزي في فيلمه Casino عام 95 في عمل يلقى فيه الضوء على مافيا القمار والكازينوهات و شاركتهم في هذا الفيلم النجمة شارون ستون.
العراب رواية ل ماريو بوزو
إن فيلم “العراب” مأخوذ من رواية بنفس العنوان للروائي الأمريكي من أصل إيطالي “ماريو جيانلويجي بوزو” (15 أكتوبر 1920 – 2 يوليو 1999)، الذي ترعرع في حي نابولي بنيويورك والذي كان يُعرف ب”مطبخ الجحيم”، لأنه كان مشتل الجريمة المنظمة، وهو الإرث الذي سيظهر بوضوح في الأعمال الأدبية لبوزو. بعد تخرجه من جامعة نيويورك، انضم إلى القوات الجوية الأمريكية، لكنه لم يُسمح له بالمشاركة في الحرب العالمية الثانية حيث سُرح من الجيش لضعف بصره، وسيُرسل الى أوربا ليعمل ضابطاً للعلاقات العامة في ألمانيا حيث سينشر أولى أعماله الإبداعية(The Dark Arena) سنة 1955، ثم بعد ذلك سيعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل كاتبا ومحررا في (Martin Goodman’s Magazine)، لينشر بعد ذلك أعمالاً إبداعية أخرى مثل mama lucia ” The Fortunate Pilgrim” 1965و” The Runaway Summer of Davie Shaw” 1966و” Six Graves to Munich” 1967الذي نشره باسم مستعار هو “ماريو كليري”، وفي 1969 سينشر روايته الأشهر “العراب” التي لاقت إقبالاً منقطع النظير لدى نشرها، وقد بلغ عدد النسخ الموزعة خمسة ملايين نسخة نفذت خلال أقل من شهر من توزيع الكتاب ثم توالت الطبعات والترجمات إلى أكثر لغات العالم، وقد جنى من وراء هذه الرواية أرباحا طائلة ربما لم يبلغه أي كاتب من قبل، محققا بذلك حلمه حيث سبق له أن صرح في أحد حواراته مع الصحافة أن الدافع الأساس وراء هذا العمل هو المال.لكن رغم ذلك، ورغم البناء الفني المتواضع للرواية، إلا أنها تُعتبر بحق أحد أهم الأعمال الفنية التي أدانت فساد المجتمع البورجوازي، وأدانت انحلاله وسقوطه في مهاوي القتل والسلب والنهب والرشوة والاتجار بالأفيون و الأجساد في ظل السلطة والقانون والبوليس، وكذا تواطؤ رجال السياسة وصناع القرار و تورطهم أيضا في هذه الأعمال القذرة . كما تتهكم الرواية على عدالة النظام الأمريكي، ففي أحد مقاطع الرواية، يقول الدون فيتو كورليون ساخرا من أحد أقربائه الذي كان قد رفض الدخول تحت أمرته، و الذي أتى إليه أخيرا يطلب منه الثأر لابنته، بعد أن اعتدى عليها شابين من ذوي النفوذ ولم تستطع المحكمة فعل أي شيء إزاءهما، يقول الدون “ها أنت تمثل أمام المحاكم وتنتظر شهورا طويلة ويحكم عليك لا لك…وتدفع أجور المحامين الذين يخدعونك، وتخدعك المحاكم ويخدعك القاضي أيضا هذا الذي يبيع نفسه كأي مومس، وكنت تذهب إلى البنوك كالشحاذ لتقرضك أمولا لا تدفعها لك إلا بفوائد فاحشة…”الرواية ص:28.
وفي 02 يوليوز 1999 توفي ماريو بوزو بسكتة قلبية في منزله على شاطئ سان فرانسيسكو، وإلى أخر حياته ظل يردد أن روايته “ماما لوسيا”mama lucia أقرب الأعمال إلى قلبه، وأكثرها شاعرية و أدبية بالنسبة إليه.
العراب فيلم ل فرانسيس فورد كوبولا
تدور رائعة العراب في جزءها الأول حول عائلة كورليون بقيادة الأب الروحي الدون فيتو والذي جسده النجم المكسيكي الراحل مـارلون براندو ، حيث يسلط الضوء على ابنه الأصغر مايكل الذي حاول البقاء بعيداً عن أعمال المنظمة التي يديرها والده وأخوته لكن الأحداث تسير على غير مبتغاه ليجد نفسه في خضم الأحداث طرفاً رئيساً فيها، ولينتهي به الأمر بتولي منصب القيادة لهذه المنظمة ..
شارك في هذا العمل نجوم كبار يتقدمهم الأب الروحي “مارلون براندو” وكل من الأخوة “آل باتشينو” بشخصية مايكل وأخواه الكبيران “جيمس كان” و”جون كازل” بالإضافة إلى أخيهم المتبنى “روبرت دوفال” والنجمة “ديانا كيتون”.
في الجزء الثاني تسير أحداثه بمسارين مختلفين زمانياً فهناك فيتو كورليون الطفل في ثلاثينات القرن الماضي والذي قاسى الظلم وقسوة الحياة منذ أن شاهدت عيناه النور في إيطاليا وحتى انتقاله إلى أميركا على متن باخرة بعد أن قُتل والداه وشقيقه الأكبر على يد زعيم إحدى العصابات، مروراً بمحاولته كسب لقمة العيش، وانتهاءً بتحوله إلى قاتل ومن ثم قائد للمنظمة .. على الجانب الآخر عائلة مايكل كورليون الذي يعيش أوج مجده بعد أن تفرد بالزعامة، حيث يكتشف عملية اغتيال دبرت له يقف خلفها عدد من الأشخاص أحدهم شقيقه الأكبر فريدو، كما تضيق الحكومة الخناق عليه من خلال استحضارها لأدلة تدينه بجرائم قتل واغتيالات يقف خلفها شاهد كبير ..
يشارك في هذا الجزء النجم الكبير “روبرت دي نيرو” بدور الزعيم فيتو كورليون في فترة شبابه مع عدد من طاقم الجزء الأول كـآل باتشينو روبرت دوفال وديانا كيتون.
في الجزء الثالث، مايكل كورليون عجوز يكافح من أجل أن تكون جميع أعمال العائلة شرعية، ولو ظاهرياً على الأقل، ينضم إليه ابن أخيه الراحل سوني اندي جارسيا ويرى فيه شخصية الزعيم القادم للعائلة ومع تردي حالة الدون مايكل الصحية، يُنصب ابن أخيه زعيماً للعائلة ويتفرغ هو لرعاية ابنته، إلى أن توفى بسكتة قلبية وهو في حديقة منزله … جميع الأجزاء السابقة وقف خلفها المخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا ليشكل من خلالها مرحلة جديدة في عالم السينما.
كتبا سيناريو الفيلم المخرج فرانسيس كوبولا ومؤلف الرواية الأصلي ماريو بوزو، وقد رُشح الفيلم لإحدى عشر جائزة للأوسكار، ونال منها ثلاث؛ إحداها جائزة السيناريو وأخرى لأفضل ممثل ل “مارلون براندو” عن أدائه لشخصية دون كورليون، وهي الجائزة التي سينالها “روبرت دينيرو” في الجزء الثاني من الفيلم عن أدائه لدور نفس الشخصية في سابقة في تاريخ السينما العالمية، حيث مُنحت جائزتين للأوسكار لممثلين مختلفين عن أدائهما لدور نفس الشخصية (فيتو كورليون).
وفي التصنيف الذي يعده معهد الفيلم الأمريكي لأحسن مائة فيلم في تاريخ السينما، يحتل الجزء الأول(1972) الرتبة الثالثة، أما الجزء الثاني(1974) فهو في الرتبة 32، في حين الجزء الثالث(1990) غير وارد في تصنيف أحسن مائة فيلم.
وتجدر الإشارة إلى أن كاتبي السيناريو اللذين هما فرانسيس كوبولا و ماريو بوزو لم يسجنا على خلفية المعلومات الدقيقة عن المافيا التي تضمنها السيناريو ولم يكونا محل ملاحقة قضائية، كما هو شائع لدى الكثيرين مما شاهدوا الفيلم، فقط بعض الصحف الأمريكية كانت قد اتهمت ماريو بوزو بكونه كان عضوا في إحدى عائلات المافيا وطرد منها لنشره هذه المعلومات.
العراب في السياسة المغربية
لا أدري هل أنا الذي يسرح خيالي كثيرا أم أن الواقع هو من يوعز لي بذلك، فبينما كنت أُعيد مشاهدة الفيلم؛ تراءت لي مشاهد تتكرر باستمرار في حياتنا السياسية والاجتماعية، فتكالبت علي الأسئلة، وأريد أن أشرككم إياها: ألا تُدار الكثير من الأحزاب و الجمعيات بطريقة المافيا؟ ألا يتصرف رجال العهد الجديد كما كان يتصرف سوني ابن الدون كورليون في الفيلم؛ بكل نزق وعدوانية؟؟؟
قبل بضعة أشهر وربما في غفوة نادرة، قال مصطفى المنصوري زعيم حزب التجمع الوطني للأحرار آنذاك أن حزب الأصالة والمعاصرة يريد أن يُرجعنا إلى سنوات الرصاص-ومتى غادرنا هذه السنوات؟-فلم يتأخر العقاب كثيرا؛ إذ نُحيّ من منصبه رغم أنفه وأنف قواعد حزبه، ورجع إلى بلدته العروي ليتكفل بمزرعته ويرتكن إلى الصمت حتى يتعلم جيدا متى يفتح فمه. وكذلك ففي قاموس المافيا طريقتين لعقاب من يشق عصا الطاعة من أفراد العائلة؛ إما أن يقتل شر قتلة وإما أن يطرد من العائلة و يُدفع إلى السكوت و الابتعاد عن الأضواء.
في الفيلم يرسل الدون كورليون مستشاره توم هاجن إلى أحد أكبر منتجي الأفلام في هوليود، ليطلب منه إسناد دور البطولة في الفيلم الذي يريد إنتاجه إلى ابنه بالمعمودية “جوني فونتان”، لكن هذا المنتج تَنَطّعَ وركبه العناد ولم يقبل طلب الدون بدعوى أن جون لا يصلح للدور، وفي اليوم الموالي؛ وبينما هو نائم في فراشه، استيقظ مع أولى خيوط الفجر ليجد نفسه غارقاً في الدماء، وبعد أن بحث عن مصدر هذه الدماء وجد رأس حصانه النادر والذي تقدر قيمته ب 600 ألف دولار قد جزه رجال الدون ووضعوه بدمائه في فراش المنتج العنيد-في الرواية وجد رأس الحصان معلقاً على النافذة- بعد ذلك أخذ المنتج العبرة وفهم الدرس جيداً، فأسند دور البطولة في الفيلم إلى جون.
ولنا أن نتساءل نحن؛ كم عدد الذين رأوا رؤوس أحصنتهم معلقة على نوافذ غرف نومهم، فطأطأوا رؤوسهم وقبلوا بكل شيء، وسلموا أمرهم لمشيئة العرّاب. وكم عدد اللذين كان حلمهم مجرد المشاركة في الفيلم ولو ككومبارس فقط، أو في دور ثانوي وبسيط، فإذا بهم أصبحوا يلعبون أدوار البطولة، والفضل في كل ذلك طبعاً يرجع للعرّاب الدون(…).بل الأدهى من ذلك حتى بعض “المناضلين” الذين تعذر عليهم تحقيق بعض أحلامهم البسيطة(الانتقال، صرف تعويضات الإنصاف والمصالحة… )بمجرد ما وقفوا أمام الدون متوسلين، عرفت مشاكلهم الحل بسرعة قياسية.
في لقطة أخرى اعتبرها النقاد أقوى مشاهد الفيلم، كان مايكل يراقص شقيقه فريدو في حفلة رأس السنة الميلادية في كوبا، فدنا منه وقبله على شفتيه، وهي القبلة التي تسمى في قاموس المافيا بقبلة الموت، وحينئذ استشعر فريدو أن مايكل قد اكتشف خيانته وتآمره مع أعدائه في محاولة الاغتيال التي استهدفته فعرف مصيره الذي ينتظره.
وقبل شهور أيضا كثر الحديث عن البرلماني سعيد شعو وعن المطاردات والمضايقات التي تعرض لها، نتيجة اعتقاده الساذج بأنه ربما قد أصبح رقما له مكانته في معادلة العهد الجديد، وراح يكشف عن طموحه في أن يستقل بأعماله ويؤسس عائلته الخاصة، فكان مصيره أن وجد نفسه -كما حكى في إحدى حواراته الصحافية- ذات صباح باكر(تذكروا التوقيت جيدا) في فراشه محاطاً برجال ملثمين أبلغوه تهديدات العراب وشروطه، ومع أولى خيوط الصباح تسلل شعو بلباس نومه ليعبر الحدود في اتجاه هولندا، ولم يستطع فتح فمه إلا بعد مرور أزيد من خمسة أشهر، لكن الذي لم يصرح به شعو لحد الآن : من هو العراب الذي طبع عليه قبلة الموت؟

العرب ضد العرب/ واسيني الأعرج

لا أحب نظرية المؤامرة التي تلصق كل شيء بالآخر وهي دليل قاطع على اننا لم نعد نملك أية وسيلة للإقناع ونبحث عن مشجب نعلق عليه هزائمنا التي نرفض الاعتراف بها. لكن عندما تكون ضعيفا والآخر متوغلا فيك، في حياتك الخاصة والعامة يصبح الأمر لا علاقة له بنظرية المؤامرة. نعرف جيدا انه منذ زمن بعيد والعرب يخوضون حروبا مستميتة ضد الاستعمار بمختلف تجلياته التاريخية وأحقاده ومصالحه. سواء فقد العرب مواقع استراتيجية في التجارة البحرية والبرية، فطريق الحرير العظيم كان يتوغل عميقا في الموانئ والأراضي العربية. ثم اكتشف النفط، فتحولت الأرض العربية إلى أرض ثمينة يجب تفكيكها بهدف تدمير أية قوة ناشئة. رائحة جلبت لها كل الدول التي رهن تقدمها بالطاقة العربية. هذا كله نعرفه جيدا والدراسات فيه متوفرة بكثافة لكن ان يكون العرب ضد العرب، هو السؤال الذي يستحق ان يطرح. يدل ذلك بشكل واضح على ان كل أدوات الوحدة قد تفككت بقوة ولم يعد شيء يجمعها حتى لا نقول ان العداوة استشرت حتى أصبح من المستحيل إيجاد حل. الثورات العربية أو ما سمي بالربيع العربي، لم يخلق مناخا صحيا. فقد انقسم العرب بين مناصر وحيادي وعدائي ضد أو مع هذا الربيع. ضد أو مع ما يحدث في سوريا. الشيء نفسه بين مصر والعرب، بين مناصر لانهاء حكم الإخوان المسلمين ومجيء السيسي وبين من هو ضد. عداوات قوية لم تعد الواجهة السياسية وحتى المصلحية قادرة على إخفائها. إضافة إلى الوضع في ليبيا الذي لا يخدم لا تونس ولا الجزائر ولا مصر ولا الساحل الإفريقي أيضا لأنه يضع المنطقة على حافة المخاطر، إذ أصبح السلاح الذي ألقاه الحلفاء على الأراضي الليبية، أو الذي من ضمن ترسانة القذافي، في غياب الدولة الناظمة أصبح بين أيدي غير مسؤولة لا يحكمها حتى الوازع الديني، إذ البنية التحتية هي بنية تتمدد وتكبر وتفرض نفسها عن طريق تهريب الاسلحة عبر الساحل الصحراوي وتزويد الصراع المالي والنيجيري وغيره مما يضع المنطقة كلها على فوهة بركان. ويضاف إلى تهريب الاسلحة من كل الانواع لدرجة تهديد الطيران المدني، تهريب شبه علني للمخدرات التي تحولت إلى وسيلة للدفع ومقايضة الاسلحة. وشبكات التهريب أصبحت اليوم منظمة لدرجة انها لو تستمر بدون رادع، ستصبح سلطة قائمة في شكل مافيا تعلي وتنزل المسؤولين وفق المصالح المعلنة أو السرية. وتتدخل في السياسات، بل وتقتل أو تغتال من لا ترضى عنه. نموذج أمريكي لاتيني بدأ يرتسم في الأفق. ولا قوة عربية واعية بمخاطره وتظن الحكومات المستقرة نسبيا انها غير معنية. عمى الأحقاد بين العرب انساهم كل شيء. لم يتعظوا لا بالحياة ولا حتى بالتاريخ. ملوك الطوائف أكلوا على مدى القرون المتتالية. كل مملكة أو إمارة كانت تظن ان الأمر يعني جيرانها ولا يخصها حتى يأتي الفأس على رأسها يكون الوضع قد تخطى عتبات الاستدراك. إضافة إلى العداوات التقليدية بين الإخوة الأعداء التي تحكم العالم العربي. مصر والسودان وإثيوبيا في أفق حرب حول الماء، خطيرة ومدمرة، ستأتي حتما على ما تبقى من الجهود العربية. بين الجزائر والمغرب لا شيء يمنع من تطور الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه. سيكون ذلك المزيد من التمزقات الجهوية. ويخطئ المغرب كما الجزائر إذا ظنا ان الطاحونة ستأكل الثاني دون الأول أو العكس. عندما تتوفر النية الجادة والتفكير بمنطق المصلحة المشتركة، لا مستحيل في تفكيك الخلافات أو وضعها في الثلاجة، وإتاحة الفرصة للمغاربيين، وليس المغرب والجزائر فقط، ليتحولوا إلى نموذج حقيقي للعرب، وقاطرة قوية وحيوية لتطور متميز. العلاقات بين السعودية واليمن الحوثية ليست على ما يرام. وقد تفرض ترتيبات عسكرية جديدة لا تخلف إلا المزيد من التمزقات داخل كيان المنتصر والمنهزم أيضا. لا أتحدث عن السودان ضد السودان وما يتم رسمه في الأفق القريب للمزيد من التفكك والانهيار. في كل البلاد العربية الدولة لا تشد إلا على خيطين رهيفين، خيط العراقة والقدامة وهو خيط غير مضمون. وخيط المؤسسة العسكرية التي بقدر ما تُورط مدنيا تخسر موقعها الحيادي ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع غير ذلك في ظل قتل المجتمع المدني، وأمام تفكك كبير وخطير قد يغرق البلاد في الفوضى والهلاك. ماذا كان سيحدث في الجزائر في التسعينيات لو انهارت المؤسسات العسكرية؟ ماذا كان سيحدث في مصر وتونس لو لم يتسلم الجيش زمام الامور. نستطيع ان نقول ما نريد عن الجيوش العربية التي لم تكن أمامها حلول كثيرة في ظل انهيار الدولة كليا. نحن أمام حالة غير مسبوقة وبعيدين كل البعد عن جيش الانقاذ العربي أيام الثورة العربية، على الرغم من ضعفه. بعيدين عن حرب 73 التي اعادت للعرب بعض عزتهم بعد ان قهروا أسطورة الجندي الذي لا يقهر. بعيدين عن فكرة توحيد جيش عربي لحماية حدوده. العرب ضد العرب ليست مقولة سينمائية: كريمر ضد كريمر، العرب ضد العرب معناه العرب ضد أي مستقبل وضد انفسهم: الانهاك والموت البطيء وحروب بلا معنى واستنزاف للخيرات. كل يوم تكبر سبل الموت واحتمالات الاحتراق والاندثار.